قوله تعالى:{ وورث سليمان داود وقال يأيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين } .
فيها مسألتان: المسألة الأولى: قد بينا فيما سلف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة } . وأنه قال: { إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا علما } . والأول أصح .
فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: { وورث سليمان داود } قلنا وهي: المسألة الثانية: أراد بالإرث هاهنا نزوله منزلته في النبوة والملك، وكان لداود تسعة عشر ولدا ذكرا وأنثى، وكان سليمان أصغر إخوته، فخص سليمان بالذكر، ولو كانت وراثة مال لانقسمت على العدد، فخصه بما كان لداود، وزاده من فضله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده .
حكمة وذكاء سليمان
لما توفي نبي الله داوود عليه السلام جاء الناس ليصلوا عليه، وقد كان ذالك اليوم يوما حارا، فتأذى الناس من حر الشمس وقالوا لإبنه سليمان أن يفعل شيئا لهم، فأمرالصقور ذوات الأجنحة الكبيرة أن تظلل الناس، فكان ذالك أول ما رأوه من ملكه .
لقد ترك داود العديد من الأبناء، تسعة عشر ولدا ذكرا وأنثى، ولكن لم يكن أحد منهم بمنزلة سليمان عليه السلام، لأنه أكثرهم ذكاء وفطنة، وقد كان في يوم دفن أبيه صغيرا، لكنه أصبح الملك على بني إسرائيل بعد موته، يفهم ما تتكلم به الطير، بحيث إذا رأى طائرا فوق الشجرة يغرد فسر لأصحابه ما الطائر أن يقوله، فما من طائر يطير بجناحين إلا وفهم كلامه ومقصوده، كما كان يفهم كلام الحيوانات والحشرات، وهذا من فضل الله سبحانه عليه، لأنه، كان عبدا يحب الله ويعبده ويشكره ويطيعه، كان يعامل بني إسرائيل كما كان يفعل أبوه من قبله، من الحكم بينهم بالعدل مالإحسان، يأمرهم بطاعة الله وعبادته وحده لا شريك له، وبأجتناب معاصيه.
وقدآتاه الله الحكمة منذ صغره، وكمثال على ذالك أنه لما كان داود عليه السلام حيا جاءه أناس يتحاكمون إليه في قضية شائكة، هي أن قوما منهم كانت لهم حديقة جميلة غرسوا فيها كثيرا من الأشجار والكروم، ولما نضج الثمر وأصبحت عناقيد العنب متدلية من الأشجار، دخلت على تلك الحديقة أغنام لقوم آخرين، فعاثت فيها فسادا، أكلة العنب وأفسدت الشجر، جاء هؤلاء الناس يشتكون ما حل بهم، فحكم نبي الله داود عليه السلام بأن يعطي أصحاب الغنم لأصحاب الحديقة قيمة ما أفسدته أغنامهم.
ولما خرجوا من عنده التقوا بإبنه سليمان عليه السلام فقال لهم: كيف حكم بينكم أبي ؟ . .
فأخبروه، قال: لو كنت أنا الذي يحكم بينكم لحكمت بطريقة أخرى .
قالوا له: وكيف تحكم ؟ .
قال: أقول لأصحاب الغنم: أعطوا غنمكم لأصحاب الحديقة، ويقوم أصحاب الغنم بإعادة غرس ما أفسده غنمهم من العنب، مع تعهد الشجر حتى تنتج مرة أخرى، أما الغنم فإنه يكون عند أصحاب الحديقة يستفيدون بها طوال هذه المدة، يأخذون من حليبها إلى أن تعودحديقتهم كما كانت عليهم من قبل، وحينذاك يسترجع كل منهما ما كان يملكه .
ولما سمع أبوه داود عليه السلام رأي ابنه في هذا الأمر غير حكمه السابق، وقضى بالحكم الذي رآه ابنه .
وحدثت قضية أخرى في حياة أبيه تشبه الحادثة السالفة، وهو أن أمرأتين متجاورتين كان لكل واحدة منهما ولد، وكان الطفلان يلعبان، جاء الذئب فأخذ أحدهماوافترسه، فتنازعت المرأتان في الطفل الحي، قالت المرأة الكبيرة: إن الذئب قد افترس ابنك، أما هذا الطفل فهو ابني، وقالت الصغرى: بل الذي افترسه الذئب هو ابنك وهذا الولد ابني .
فجاءتا إلى داود عليه السلام ليحكم بينهما، فلما سمع مقالتيهما حكم بأن الطفل للكبرى وليس للصغرى/ ولما خرجتا من عنده قال لهما سليمان عليه السلام: كيف حكم بينكما نبي الله أبي ؟ فأخبرتاه بالحكم .
قال سليمان: ائتياني بسكين لأقسمه إلى نصفين، ثم أعطي لكل منكما نصفها، قالت الصغرى لا تفعل هذا يرحمك الله، إنك إن قسمته نصفين سيموت، هو ابنها وليس ابني، لما سمع كلامهما أعطى الولد للصغرى، لأنها أشفقت على ابنها من الموت فتنازلت عن أمومتها لنبقي ابنها حيا، وعلم سليمان عليه السلام أن الطفل لو لم يكن للصغرى ما تكلمت، وكان كلامها دليلا على أنه ابنها لأنها تشفق عليه من الموت .
بقيت 7 أجزاء من قصت سيدنا سليمان عليه السلام في أقرب وقت ان شاء الله